
لويس غوتييه، الرئيس الأول لديوان المحاسبة الفرنسي
يعهد الدستور الفرنسي إلى ديوان المحاسبة مهمة إعلام الجمهور من خلال تقاريره العامة. ويشكِّل التقرير السنوي العام وسيلة أساسية لهذه المعلومات. وينصُّ القانون على أنّه يتعلّق بـ”قضية سياسة عامة رئيسية يرغب ديوان المحاسبة في لفت انتباه السلطات العامة إليها والمساهمة في إعلام المواطنين”. وبحث ديوان المحاسبة في تقريره السنوي العام لسنة 2024 في موضوع العمل العام للتكيُّف مع تغير المناخ.
وتتعلّق هذه المسألة بجميع مجالات العمل العام. وهي تعنى أساساً بالإدارات على مختلف أنواعها وعلى جميع المستويات، أي الإدارات الحكومية، والسلطات المحلية، والمؤسسات العامة الوطنية والمحلية، والشركات العامة، ولكن يجب أن تشرك أيضاً كل الجهات الفاعلة في المجتمع، أي الأسر المعيشية، ومؤسسات الأعمال، والمجتمع التعليمي، والجمعيات، وعالم البحوث. إلا أنَّ المواطن هو في صلب الموضوع. ولا يمكن فعل أي شيء بدونه، ناهيك عمّا إذا كان ضدّه. ومع ذلك، ستساهم العديد من التدابير المتوخّاة للاستجابة لآثار تغير المناخ في تعديل ظروف معيشتهم، في أهم جوانبها الأساسية، أي الغذاء، والإسكان، والنقل، والأنشطة الترفيهية، وما إلى ذلك.
يُعدُّ التكيُّف مع تغير المناخ مسألة معقّدة، وهو ينطوي على التكيُّف مع ظواهر شديدة التنوع (موجات الحر، وحرائق الغابات، والأعاصير، والفيضانات، إلخ.) تتجلى آثارها على مختلف النطاقات الإقليمية والأفق الزمنية، في سياق متغير خلاف ذلك. وتجعل هذه الخصائص التكيُّف مع تغير المناخ موضوعاً مناسباً بشكل خاص للولايات القضائية المالية لممارسة دورها كأطراف ثالثة موثوق بها في ما يتعلق بصانعي القرار والجمهور.
وشملت التحقيقات التي أجريت لهذا التقرير الغرف المواضيعية الست التابعة لديوان المحاسبة وجميع الغرف في المناطق والأقاليم البالغ عددها 17. ويتعلَّق معظمها بسياسات مشتركة بين الدولة والسلطات المحلية. وقد جرى تصميمها وتنفيذها بهدف إعطاء إجابات عن الأسئلة الرئيسية التي يطرحها الفرنسيون على أنفسهم عند إبراز موضوع تكييف بيئتهم المعيشية ومحيطهم وأنشطتهم.
ويتمحور السؤال الأول حول معرفة ما يمكن توقّعه بعبارات ملموسة، وفي أي إطار زمني، فهم يريدون فهم عواقب تغير المناخ على حياتهم اليومية وتوقّعها. كما يريدون معرفة كيفية تحديد الجهود المطلوبة للتكيُّف مع تغير المناخ والبتِّ فيها وتقاسمها بين جميع الأطراف الفاعلة المعنية. ويجب عدم النظر إلى التكيُّف من زاوية تقنية فحسب، بل هو يشكل أيضاً مسألة ديمقراطية. ويدفعهم أخيراً تعقيد التكيُّف وحجم الإنفاق الناشئ، في وقت تصبح فيه حالة المالية العامة مقلقة أكثر فأكثر، إلى التساؤل عن كيفية تصميم وتنفيذ حلول مناسبة ومستدامة في آن معاً: ما الذي يمكن القيام به بكفاءة وبأقل تكلفة؟
من هذا المنطلق، نظرت السلطات القضائية المالية أولاً في ثلاثة موضوعات شاملة هي مكان البحوث العامة ودورها في التكيُّف مع تغير المناخ، ودور المؤسسات المالية والمصرفية في تكييف الاقتصاد مع تغير المناخ، ومساهمة الوكالة الفرنسية للتنمية في التكيُّف مع تغير المناخ في البلدان النامية.
إلى ذلك، درست السلطات القضائية المالية تأثير تغير المناخ على البيئة المعيشية للشعب الفرنسي وعلى البنى التحتية العامة الرئيسية. وتحقيقاً لهذه الغاية، بحثت مسألة تكييف المساكن والمراكز الحضرية، فضلاً عن إدماج هذه المسألة في السياسة العقارية للدولة. كما أنَّ مراعاة عواقب تغير المناخ في إدارة محطات الطاقة النووية، ومرافق الطاقة الكهرمائية، وشبكات نقل الكهرباء وتوزيعها، والسكك الحديدية، من حيث التشغيل والاستثمار، تمثّل تحدّياً رئيسياً أدّى إلى إجراء تحقيقات محدّدة. وجرى النظر أيضاً في الوضع الخاص لوزارة القوات المسلحة الفرنسية من الزاوية نفسها.
يخلف تغير المناخ أيضاً عواقب على البيئة الطبيعية التي يعيش الفرنسيون ويعملون فيها. ونظرت السلطات القضائية المالية في الطريقة التي يمكن بها توقُّع هذه الآثار ومعالجتها في إدارة الغابات والسواحل، وكذلك في منع الكوارث الطبيعية المتّصلة بالمناخ ما وراء البحار وحماية الفئات الضعيفة من موجات الحر. كما نظرت في كيفية تكيُّف محاصيل الحبوب والمنتجعات الجبلية مع تغير المناخ.
وتُستخلص أربعة دروس رئيسية من مجموعة العمل هذه.
الدرس الأول هو الحاجة إلى معرفة أفضل بآثار تغير المناخ، والمخاطر التي يجب أن نتكيَّف معها وحجمها. ويتعين علينا بالتأكيد تحسين البيانات التي نحتاجها للخروج بتوقعات أكثر دقة وموثوقية، وتكييف المعايير المعمول بها لمراعاة المخاطر المتغيرة. وفي هذه المجالات الثلاثة (البيانات، والتوقعات، والمعايير)، أبرز عمل السلطات القضائية المالية مدى التقدم الذي يتعين إحرازه. فعلى سبيل المثال، لا تزال الأدوات المستخدمة لمسح وتشخيص حالة المباني التي يبلغ عددها نحو 200,000 التي تشكل الأصول العقارية للدولة قيد النشر، وهي تقدم بيانات غير مكتملة عن ثلثي هذه المباني فقط. ولاحظت السلطات القضائية المالية أيضاً أنَّ توقعات الأحوال الجوية لأقاليم ما وراء البحار الفرنسية أقل جودة من تلك الخاصة بالبر الرئيسي لفرنسا، رغم أنَّ هذه الأقاليم أكثر عرضة للمخاطر بسبب تركُّز السكان على السواحل وارتفاع نسبة المساكن غير المستقرة.
يتعلّق الدرس الرئيسي الثاني بضرورة إعلام المواطنين وصانعي القرار بشأن تحديات التكيُّف. ويعتبر إطلاع الجمهور على المخاطر والخيارات التي يتعين اتخاذها، وكذلك على الفرص التي تتيحها تدابير التكيُّف، شرطاً لازماً للدعم العام لهذا النهج، إذ يجب أن يسبق النشر الفعال لهذه التدابير بذل جهود كبيرة لإقناع الناس بضرورتها وفوائدها. على سبيل المثال، فإنَّ تمويل مشاريع التجديد الشاملة، بما في ذلك ليس حصراً التغييرات في نظم التدفئة، وإنّما أيضاً التحسينات في التهوية والعزل والحماية من الطاقة الشمسية، لا يعزز الراحة للمقيمين فحسب، بل يشجِّع أيضاً شركات البناء على توظيف محترفين مهرة لتأدية هذا النوع من العمل.
وقد أبرزت التحقيقات التي أجرتها السلطات المالية الفرنسية أيضاً ضرورة اتخاذ إجراءات عامة لوضع استراتيجية متّسقة ومنسّقة، وبعبارات أخرى، لتخطيط تكيُّف المجتمع مع تغير المناخ. بادئ ذي بدء، يجب التوفيق بين أهداف التكيُّف وأهداف العديد من السياسات العامة الأخرى – مثلاً في المناطق السياحية مثل الجبال والسواحل، ورغبة الممثلين المنتخبين والسكان المحليين في الحفاظ على نموذجهم الاقتصادي لأطول فترة ممكنة. ويتعيّن علينا أيضاً إرساء ثقافة حقيقية للتخطيط وإدارة المخاطر، ونشر أدوات التخطيط على النطاق الإقليمي الصحيح، وتنسيق هذه الأدوات في ما بينها في العديد من المجالات التي تشارك فيها عدة جهات فاعلة. ويعتبر تنفيذ التخطيط الدقيق والمناسب شرطاً ضرورياً ولكنَّه غير كافٍ للعمل الفعال. فنحن بحاجة أيضاً إلى موجِّه يمكنه التحكيم وتنسيق أعمال هذه الجهات الفاعلة المتعددة. ويتعين على الدولة أيضاً أن تضطلع بدورها الكامل كإستراتيجي، وأن تحدِّد أهدافاً واضحة وترسم طريقاً لتحقيقها.
أخيراً، أبرزت الدراسات الاستقصائية الست عشرة التي أجرتها السلطات القضائية المالية حجم التحدي المتمثِّل في تمويل سياسات التكيُّف. وفي سياق ميزانية ضيّق، لا يمكن مواجهة هذا التحدي إلا بجعل البحث عن الكفاءة – أي الفعالية بأقل تكلفة – أولوية مطلقة. وفي هذا الصدد، يحذِّر التقرير من مخاطر سوء التكيُّف الملازم لتنفيذ تدابير الطوارئ (مثل الإفراط في الاعتماد على تكييف الهواء، والنشر المنهجي لنظم إنتاج الثلوج الاصطناعية في المنتجعات الرياضية الشتوية، أو التجديد المنتظم للرمال على الشواطئ المهدَّدة بالتآكل البحري) التي تكون فعالة في المدى القصير وإنّما مكلفة في المديين المتوسط والطويل. ومن الواضح أنَّ للبحوث دوراً رئيسياً في إيجاد الحلول المناسبة ومساعدة الجهات الفاعلة العامة على تحديد الأساليب والجدول الزمني المناسبين لتنفيذها. ويتعين علينا أيضاً تحسين تقييمنا لتكاليف التكيُّف، والتي لا تزال في كثير من الأحيان غير مكتملة أو غير موجودة. وتشكّل “حقيقة السعر” في الواقع عنصراً أساسياً من التحكيم في تحديد حلول مستدامة مالياً وتنفيذها. غير أنَّ التكيُّف لا يتطلب بالضرورة إنفاقاً عاماً جديداً. وثمّة أدوات أخرى يمكن استخدامها تشمل تشجيع الجهات الفاعلة على التصرف وجعلها أكثر عرضة للمساءلة.
وفي معظم القطاعات التي نُظِر فيها، لا يزال من الضروري إحراز مقدار كبير من التقدم، ولكن هناك الآن إقرار بالطابع الملِح للتكيُّف، وقد بدأت الجهات الفاعلة العامة، وبدرجات متفاوتة، في تنظيم نفسها استجابةً لذلك. ومن جانبه، قرر ديوان المحاسبة الذي يشارك في مبادرة ماسح المناخ، دعم هذه العملية بإعداد تقرير سنوي عن التحول البيئي ستصدر طبعته الأولى في سبتمبر / أيلول 2025.